فصل: المسألة الثانية: (فيمن قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}
اعلم أنه تعالى بين بقوله: {لو كان عرضًا قريبًا وسفرًا قاصدًا لاتبعوك} [التوبة: 42] أنه تخلف قوم من ذلك الغزو، وليس فيه بيان أن ذلك التخلف، كان بإذن الرسول أم لا؟ فلما قال بعده: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} دل هذا، على أن فيهم من تخلف بإذنه وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: [في الاحتجاج بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول]:

احتج بعضهم بهذه الآية على صدور الذنب عن الرسول من وجهين: الأول: أنه تعالى قال: {عَفَا الله عَنكَ} والعفو يستدعي سابقة الذنب.
والثاني: أنه تعالى قال: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وهذا استفهام بمعنى الإنكار، فدل هذا على أن ذلك الإذن كان معصية وذنبًا.
قال قتادة وعمرو بن ميمون: اثنان فعلهما الرسول، لم يؤمر بشيء فيهما، إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى، فعاتبه الله كما تسمعون.
والجواب عن الأول: لا نسلم أن قوله: {عَفَا الله عَنكَ} يوجب الذنب، ولم لا يجوز أن يقال: إن ذلك يدل على مبالغة الله في تعظيمه وتوقيره، كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظمًا عنده، عفا الله عنك ما صنعت في أمري ورضي الله عنك، ما جوابك عن كلامي؟ وعافاك الله ما عرفت حقي فلا يكون غرضة من هذا الكلام، إلا مزيد التبجيل والتعظيم.
وقال علي بن الجهم: فيما يخاطب به المتوكل وقد أمر بنفيه:
عفا الله عنك ألا حرمة ** تعود بعفوك إن أبعدا

ألم تر عبدًا عدا طوره ** ومولى عفا ورشيدًا هدى

أقلني أقالك من لم يزل ** يقيك ويصرف عنك الردى

والجواب عن الثاني أن نقول: لا يجوز أن يقال: المراد بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} الإنكار لأنا نقول: إما أن يكون صدر عن الرسول ذنب في هذه الواقعة أو لم يصدر عنه ذنب، فإن قلنا: إنه ما صدر عنه ذنب، امتنع على هذا التقدير أن يكون قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} إنكار عليه، وإن قلنا: إنه كان قد صدر عنه ذنب، فقوله: {عَفَا الله عَنكَ} يدل على حصول العفو عنه، وبعد حصول العفو عنه يستحيل أن يتوجه الإنكار عليه، فثبت أنه على جميع التقادير يمتنع أن يقال: إن قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} يدل على كون الرسول مذنبًا، وهذا جواب شاف قاطع.
وعند هذا، يحمل قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} على ترك الأولى والأكمل، لاسيما وهذه الواقعة كانت من جنس ما يتعلق بالحروب ومصالح الدنيا.

.المسألة الثانية: [فيمن قال بأن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع]:

من الناس من قال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع.
واحتج عليه بأن قوله: {فاعتبروا يا أولى الأبصار} [الحشر: 2] أمر لأولي الأبصار بالاعتبار والاجتهاد، والرسول كان سيدًا لهم، فكان داخلًا تحت هذا الأمر، ثم أكدوا ذلك بهذه الآية فقالوا: إما أن يقال إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن أو منعه عنه، أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل، وإلا امتنع أن يقول له لم أذنت لهم.
والثاني باطل أيضًا، لأن على هذا التقدير يلزم أن يقال إنه حكم بغير ما أنزل الله فيلزم دخوله تحت قوله: {وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الكافرون} [المائدة: 44] {فأولئك هُمُ الظالمون} [المائدة: 45] {فأولئك هُمُ الفاسقون} [المائدة: 47] وذلك باطل بصريح القول فلم يبق إلا القسم الثالث، وهو أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه، فإما أن يكون ذلك مبنيًا على الاجتهاد أو ما كان كذلك، والثاني باطل، لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل لقوله تعالى: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات} [مريم: 59] فلم يبق إلا أنه عليه الصلاة والسلام أذن في تلك الواقعة، بناء على الاجتهاد، وذلك يدل على أنه عليه الصلاة والسلام، كان يحكم بمقتضى الاجتهاد.
فإن قيل: فهذا بأن يدل على أنه لا يجوز له الحكم بالاجتهاد أولى، لأنه تعالى منعه من هذا الحكم بقوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}.
قلنا: إنه تعالى ما منعه من ذلك الإذن مطلقًا لأنه قال: {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} والحكم الممدود إلى غاية بكلمة حتى يجب انتهاؤه عند حصول تلك الغاية، فهذا يدل على صحة قولنا.
فإن قالوا: فلم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التبين هو التبين بطريق الوحي؟
قلنا: ما ذكرتموه محتمل إلا أن على التقدير الذي ذكرتم، يصير تكليفه، أن لا يحكم ألبتة، وأن يصبر حتى ينزل الوحي ويظهر النص، فلما ترك ذلك، كان ذلك كبيرة، وعلى التقدير الذي ذكرنا كان ذلك الخطأ خطأ واقعًا في الاجتهاد، فدخل تحت قوله: ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد فكان حمل الكلام عليه أولى.

.المسألة الثالثة: [دلالة الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة]:

دلت هذه الآية على وجوب الاحتراز عن العجلة، ووجوب التثبت والتأني وترك الاغترار بظواهر الأمور والمبالغة في التفحص، حتى يمكنه أن يعامل كل فريق بما يستحقه من التقريب أو الإبعاد.

.المسألة الرابعة: [في المعاتبة على الإذن ثم الترخيص بالإذن]:

قال قتادة: عاتبه الله كما تسمعون في هذه الآية، ثم رخص له في سورة النور فقال: {فَإِذَا استذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62].

.المسألة الخامسة: قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}:

قال أبو مسلم الأصفهاني: قوله: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} ليس فيه ما يدل على أن ذلك الإذن فيما ذا؟! فيحتمل أن بعضهم استأذن في القعود فأذن له، ويحتمل أن بعضهم استأذن في الخروج فأذن له، مع أنه ما كان خروجهم معه صوابًا، لأجل أنهم كانوا عيونًا للمنافقين على المسلمين، فكانوا يثيرون الفتن ويبغون الغوائل فلهذا السبب، ما كان في خروجهم مع الرسول مصلحة.
قال القاضي: هذا بعيد لأن هذه الآية نزلت في غزوة تبوك على وجه الذم للمتخلفين والمدح للمبادرين، وأيضًا ما بعد هذه الآية يدل على ذم القاعدين وبيان حالهم. اهـ.

.قال السمرقندي:

قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ}
وذلك أن بعض المنافقين استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتخلف عن الخروج إلى غزوة تبوك، ولم يكن لهم عذر، فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال الله تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} وقال عون بن عبد الله: أخبره بالعفو قبل أن يخبره بالذنب.
ويقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم فعل فعلين قبل أن يؤذن له، فعاتبه الله على ذلك وعفا عنه، أحدهما في فداء أسارى بدر، والثاني في إذنه للمنافقين بالتخلف.
فقال له: {عَفَا الله عَنكَ} وَلم يقل: يعافيك لم أذنت لهم في التخلف والقعود عن الجهاد.
قال الفقيه: سمعت من يذكر، عن أبي سعيد الفاريابي أنه قال: معناه عافاك الله يا سليم القلب لم أذنت لهم، فيقال: إن الله تعالى إذا قال لعبده: لم فعلت كذا وكذا؟ يكون ذلك أشد عليه من الموت كذا وكذا مرةً لهيبة قوله: لم فعلت كذا؟ ولو أنه بدأ للنبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {لم أذنت}، لكان يخاف على النبي صلى الله عليه وسلم أن ينشق قلبه من هيبة هذا الكلام.
إلا أن الله تعالى برحمته أخبره بالعفو، حتى سكن قلبه، ثم قال: {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بالقعود عن الجهاد.
{حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ}، يعني: معرفة الذين صدقوا بعذرهم وإيمانهم.
{وَتَعْلَمَ الكاذبين} في عذرهم وإيمانهم ويقال: معناه حتى يتبين لك المؤمن المخلص من المنافق. اهـ.

.قال الثعلبي:

{عَفَا الله عَنكَ} قدّم العفو على القتل.
قال قتادة وعمرو بن ميمون: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين وأخذه من الأُسارى الفدية فعاتبه الله كما تسمعون.
وقال بعضهم: إنّ الله عز وجل وقّره ورفع محله فهو افتتاح الكلام بالدعاء له، كما يقول الرجل لمخاطبه إن كان كريمًا عنده: عفا الله عنك ماصنعت في حاجتي ورضي الله عنك إلاّ زرتني، وقيل: معناه: أدام الله لك العفو.
{لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ} في أعذارهم {وَتَعْلَمَ الكاذبين} فيها. اهـ.

.قال ابن عطية:

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ}
هذه الآية في صنف مبالغ في النفاق واستأذنوا دون اعتذار، منهم عبد الله بن أبيّ والجد بن قيس ورفاعة بن التابوت ومن اتبعهم فقال بعضهم إيذن لي ولا تفتني وقال بعضهم إيذن لنا في الإقامة فأذن لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم استيفاء منه صلى الله عليه وسلم، وأخذًا بالأسهل من الأمور وتوكلًا على الله، وقال مجاهد إن بعضهم قال نستأذنه فإن أذن في القعود قعدنا وإلا قعدنا فنزلت الآية في ذلك.
وقالت فرقة: إن رسول صلى الله عليه وسلم، أذن لهم دون أن يؤمر بذلك فعفي عنه ما يلحق من هذا، وقدم له ذكر العفو قبل العتاب إكرامًا له صلى الله عليه وسلم، وقال عمرو بن ميمون الأودي: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم، صدع برأيه في قصتين دون أن يؤمر فيهما بشيء.
هذه، وأمر أسارى بدر، فعاتبه الله فيهما، وقالت فرقة بل قوله في هذه الآية: {عفا الله عنك} استفتاح كلام، كما تقول أصلحك الله وأعزك الله، ولم يكن منه صلى الله عليه وسلم، ذنب يعفى عنه لأن صورة الاستنفار قبول الإعذار مصروفة إلى اجتهاده، وأما قوله: {لم أذنت} فهي على معنى التقرير، وقوله: {الذين صدقوا} يريد استئذانك وأنك لو لم تأذن لهم خرجوا معك وقوله: {وتعلم الكاذبين} يريد في أنهم استأذنوك يظهرون لك أنهم يقفون عند حدك وهو كذبة قد عزموا على العصيان أذنت لهم أو لم تأذن، وقال الطبري معناه حتى تعلم الصادقين في أن لهم عذرًا والكاذبين في أن لا عذر لهم.
قال القاضي أبو محمد: وعلى هذا التأويل يختلط المتعذرون وقد قدمنا أن فيهم مؤمنين كالمستأذنين وهم لا يؤمنون بالله واليوم الآخر والأول أصوب والله أعلم.
وأدخل الطبري أيضًا في تفسير هذه الآية عن قتادة أن هذه الآية نزلت بعدها الآية الأخرى في سورة النور {فإذا استأذنوك لبعض شأنهم فأذن لمن شئت منهم} [الآية: 62].
قال القاضي أبو محمد: هذا غلط لأن آية النور نزلت سنة أربع من الهجرة في غزوة الخندق في استئذان بعض المؤمنين رسول الله صلى الله عليه وسلم، في بعض شأنهم في بيوتهم في بعض الأوقات، فأباح الله له أن يأذن فتباينت الآيتان في الوقت والمعنى. اهـ.

.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ}
كان صلى الله عليه وسلم قد أذن لقوم من المنافقين في التخلُّف لمَّا خرج إلى تبوك، قال ابن عباس: ولم يكن يومئذ يعرف المنافقين.
قال عمرو بن ميمون: اثنتان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفداء من الأسارى؛ فعاتبه الله كما تسمعون.
قال مورِّق: عاتبه ربُّه بهذا.
وقال سفيان بن عيينة: انظر إلى هذا اللطف، بدأه بالعفو قبل أن يعيِّره بالذَّنْب.
وقال ابن الأنباري: لم يخاطَب بهذا لجرم أجرمه، لكنَّ الله وقَّره ورفع من شأنه حين افتتح الكلام بقوله: {عفا الله عنك} كما يقول الرجل لمخاطبه إذا كان كريمًا عليه: عفا الله عنك، ما صنعت في حاجتي؟ ورضي الله عنك هلاَّ زرتني.
قوله تعالى: {حتى يتبيَّن لك الذين صدقوا} فيه قولان:
أحدهما: أن معناه: حتى تعرف ذوي العذر في التخلُّف ممن لا عذر له.
والثاني: لو لم تأذن لهم، لقعدوا وبان لك كذبهم في اعتذارهم.
قال قتادة: ثم إن الله تعالى نسخ هذه الآية بقوله: {فائذن لمن شئتَ منهم} [النور: 62]. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} قيل: هو افتتاح كلام؛ كما تقول: أصلحك الله وأعزك ورحمك! كان كذا وكذا.